فصل: فصل في سر الخلق والأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمشهورُ أَنَّ الإضافَةَ: إِمَّا على معنى اللامِ وإما على مَعْنى مِنْ، وكونُها بمعنى في غَيْرُ صَحِيحٍ.
وأَمَّا قوله تعالى: {مَكْرُ اللَّيْلِ} فلا دَلاَلَةَ فِيه؛ لأنَّ هذا من بَابِ البَلاَغَةِ، وهو التَّجوزُ في أَنْ جَعَلَ ليلهم ونهارهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كَثْرة وقوعه منهم فيهما؛ فهو نَظيرُ قَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِم، ولَيْلُهُ قَائِم؛ وقول الشاعر في ذلك البيت: البسيط:
أَمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْد وَسِلْسِلَةٍ ** وَاللَّيْلِ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِنَ السَّاجِ

لما كانت هذه الأشياءُ يكْثُر وقُوعها في هذه الظروفِ، وَصَفُوهَا بها مُبَالغةً في ذلك، وهو مَذْهَب مَشْهُور في كَلاَمِهِمْ.
و اليَوْمُ لُغَةً: القِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ، أيَّ زَمَنٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ وَنَهار؛ قال الله تبارك وتعالى: {والتفت الساق بالساق إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} [القيامة: 29 و30] وذلك كناية عن احتضار الموتى، وهو لا يختَصُّ بِلَيْلٍ ولا نَهَار.
وأما في العُرْف: فهو من طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُرُوبِ الشمس.
وقال الرَّاغِبُ: اليوم يُعَبَّرُ به عن وَقْتِ طُلُوعِ الشمسِ إلى غُرُوبِها.
وهذا إنَّما ذكرُوهُ في النَّهارِ لا في اليَوم، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرتُ، وقد يُطْلَقُ اليوم على السَّاعةِ، قال تبارك وتعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وربما عُبِّرَ عَنِ الشِّدَّةِ باليومِ، يُقالُ يَوْم أَيَوْم؛ كما يُقالُ: لَيْلَة لَيْلاَءُ.
ذكره القُرْطُبِيُّ رحمه الله تعالى.
و {الدِّينِ} مضاف إِلَيْه أَيْضًا، والمرادُ به- هنا- الجَزَاءُ؛ ومنهُ قولُ الشاعر: الهزج:
وَلَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا ** نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا

أي: جَازيْنَاهُمْ كما جَازَوْنَا.
وقال آخَرُ في ذلك: الكامل:
وَاعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ مُلْكَكَ زَائل ** وَاعْلَمْ بَأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ

ومثله: المتقارب:
إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُمُ ** وَدِنَّاهُمْ مِثْلَ مَا يَقْرِضُونا

ومثله الطويل:
حَصَادَكَ يَوْمًا مَا زَرَعْتَ وإِنَّمَا ** يُدانُ الفَتَى يَوْمًا كَمَا هُوَ دَائِنُ

وقال ابنُ عباسٍ- رضي الله تَعَالَى عنهما- ومُقاتِل والسُّدَّيِّ: {مَالِكِ يَوْمِ لدِّينِ} قَاضِي يَوْمِ الحِسَابِ؛ قال تعالى: {ذلك الدين القيم} [التوبة: 36].
أي الحسابُ المستقيمُ.
وقال قَتَادَةُ: {الدِّين} الجَزَاءُ ويقعُ على الجزاءِ في الخَيْرِ والشَّرِّ جمِيعًا.
وقال مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} يوم لا ينفعُ فيه إلاَّ الدِّين.
وقيل: الدين القَهْرُ: يُقالُ: دِنْتُهُ فَدَانَ أي: قَهَرْتُهُ فذلّ.
وقيل: الدينُ الطاعَةُ؛ ومنه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} أيْ: طَاعَة، وله مَعَاٍ أُخَرُ: العادَةُ؛ كقولِهِ هذا البيت: الطويل:
كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلِهَا ** وَجَارَتِهَا أُمِّ الرِّبابِ بمَأْسَلِ

أَيْ: كَعَادَتِكِ.
ومثله: الوافر:
تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي ** أَهَذَا دِينُهُ أَبَدًا وَدينِي

ودَانَ: عَصَى وأطاعَ: وذَلَّ وعَزَّ، فهو من الأضدَادِ قاله ثعلب.
والقضاءُ؛ ومنه قولُه تبارك وتعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة فِي دِينِ الله} [النور: 2]، أَيْ: في قَضَائِهِ وحُكْمِهِ.
والحَالُ؛ سُئِلَ بعضُ الأعرابِ فقال: لو كنتُ على دِينٍ غير هذه، لأَجَبْتُكَ، أَيْ: على حَالَةٍ.
والدَّاءُ؛ ومنه قولُ الشاعرِ في ذلك: البسيط:
يَا دِينَ قَلبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا

ويُقالُ: جِنْتُهُ بفعله أَدِينُه دَيْنًا أَدِينُه دَيْنًا وَدِينًا- بفتح الدَّال وكَسْرِها في المصدر- أيْ: جَازَيْتُه.
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
ويُقَالُ: دِينُ فُلاَن يُدَانُ إذا حُمِلَ على مَكْروهٍ، ومنه قِيل للعبدِ: مَدِين، ولِلأَمَةِ: مَدِينَة.
وقِيل: هو من دِنْتُهُ: إذا جازيته بطاعته، وجعل بعضُهم المَدِينَة مِنْ هذا البابِ قاله الرَّاغِبُ، وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظةِ عند ذكرها إِن شاء الله تعالى. اهـ.

.تفسير الآية رقم (5):

قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن القيم:

.فصل في سر الخلق والأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب:

وسر الخلق والأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين وعليهما مدار العبودية والتوحيد حتى قيل: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن ومع معاني القرآن في المفصل وجمع معاني المفصل في الفاتحة ومعاني الفاتحة في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين فنصفهما له تعالى وهو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونصفهما لعبده وهو: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وسيأتي سر هذا ومعناه إن شاء الله في موضعه.
و العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع والعرب تقول: طريق معبد أي مذلل والتعبد: التذلل والخضوع فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم تكن عابدا له ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له حتى تكون محبا خاضعا ومن هاهنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية والمنكرون لكونه محبوبا لهم بل هو غاية مطلوبهم ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم منكرين لكونه إلها وإن أقروا بكونه ربا للعالمين وخالقا لهم فهذا غاية توحيدهم وهو توحيد الربوبية الذي اعترف به مشركو العرب ولم يخرجوا به عن الشرك كما قال تعالى: [43: 87:] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.
وقال تعالى 39: 38: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 22: 84 89: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} إلى قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}. ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه. والاستعانة تجمع أصلين: الثقة بالله والإعتماد عليه فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره مع ثقته به لإستغنائه عنه وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه ولعدم من يقوم مقامه فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به. والتوكل معنى يلتئم من أصلين: من الثقة والإعتماد وهو حقيقة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهذان الأصلان وهما التوكل والعبادة قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع قرن بينهما فيها هذا أحدها.
الثاني: قول شعيب 11: 88: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
الثالث: قوله تعالى 10: 123: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}.
الرابع: قوله تعالى حكاية عن المؤمنين 60: 4: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
الخامس: قوله تعالى 73: 8 9: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}.
السادس: قوله تعالى 43: 10: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}.
فهذه ستة مواضع يجمع فيها بين الأصلين وهما: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وتقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها والاستعانة وسيلة إليها ولأن: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} متعلق بألوهيته واسمه {الله}: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} متعلق بربوبيته واسمه الرب فقدم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كما قدم اسم {الله} على الرب في أول السورة ولأن: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قسم الرب فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله تعالى لكونه أولى به: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قسم العبد فكان من الشطر الذي له وهو: {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخر السورة.
ولأن العبادة المطلقة: تتضمن الاستعانة من غير عكس فكل عابد لله عبودية تامة: مستعين به ولا ينعكس لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته فكانت العبادة أكمل وأتم ولهذا كانت قسم الرب.
ولأن الاستعانة جزء من العبادة من غير عكس ولأن الاستعانة طلب منه والعبادة طلب له.
ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص.
ولأن العبادة حقه الذي أوجبه عليك والاستعانة طلب العون على العبادة وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك وأداء حقه: أهم من التعرض لصدقته.
ولأن العبادة شكر نعمته عليك والله يحب أن يشكر والإعانة فعله بك وتوفيقه لك فإذا التزمت عبوديته ودخلت تحت رقها أعانك عليها فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم.
و العبودية محفوفة بإعانتين إعانة قبلها على التزامها والقيام بها وإعانة بعدها على عبودية أخرى وهكذا أبدا حتى يقضي العبد نحببه.
ولأن: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} له: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} به وماله مقدم على ما به لأن ماله متعلق بمحبته ورضاه وما به متعلق بمشيئته وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته فإن الكون كله متعلق بمشيئته والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار والطاعات والمعاصي والمتعلق بمحبته طاعاتهم وإيمانهم فالكفار أهل مشيئته والمؤمنون أهل محبته ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته.
فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين ففيه أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم وفيه الإهتمام وشدة العناية به وفيه الإيذان بالإختصاص المسمى بالحصر فهو في قوة لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك والحاكم في ذلك ذوق العربية والفقه فيها واستقراء موارد استعمال ذلك مقدما وسيبويه نص على الإهتمام ولم ينف غيره.
ولأنه يقبح من القائل: أن يعتق عشرة أعبد مثلا ثم يقول لأحدهم: إياك أعتقت ومن سمعه أنكر ذلك عليه وقال وغيره أيضا أعتقت ولولا فهم الإختصاص لما قبح هذا الكلام ولا حسن إنكاره.
وتأمل قوله تعالى 2: 40: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 2: 41: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} كيف تجده في قوة: لا ترهبوا غيري لا تتقوا سواي؟ وكذلك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هو في قوة: لا نعبد غيرك ولا نستعين بسواك وكل ذي ذوق سليم يفهم هذا الإختصاص من علة السياق.
ولا عبرة بجدل من قل فهمه وفتح عليه باب الشك والتشكيك فهؤلاء هم آفة العلوم وبلية الأذهان والفهوم مع أن في ضمير إياك من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل ففي إياك قصدت وأحببت من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي ما ليس في قولك قصدتك وأحببتك وإياك أعني فيه معنى نفسك وذاتك وحقيقتك أعني.
ومن هاهنا قال من قال من النحاة: إن إياّ اسم ظاهر مضاف إلى الضمير المتصل ولم يرد عليه برد شاف.
ولولا أنّا في شأن وراء هذا لأشبعنا الكلام في هذه المسألة وذكرنا مذاهب النحاة فيها ونصرنا الراجح ولعلنا أن نعطف على ذلك بعون الله.
وفي إعادة: {إِيَّاك} مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه فإذا قلت لملك مثلا إياك أحب وإياك أخاف كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والاهتمام بذكره ما ليس في قولك إياك أحب وأخاف.

.فصل في العبادة والاستعانة:

إذا عرفت هذا فالناس في هذين الأصلين وهما العبادة والاستعانة أربعة أقسام. أجلها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها ولهذا كان من أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: «يا معاذ والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».